لا مفرّ أمام أحمد الشرع غير لعب دور القائد التاريخي الذي يقود الناس ولا ينقاد لهم، والأهمّ من ذلك كلّه يفترض بالرئيس السوري الجديد إظهار أنّه أحمد الشرع وليس “أبومحمّد الجولاني”.
لا غنى عن مصالحة مع السوريين، جميع السوريين
في الإمكان الاستمرار إلى ما لا نهاية في ممارسة الهواية العربيّة المفضّلة، هواية إلقاء اللوم على إسرائيل وتحميلها المسؤولية عن كلّ ما يحدث في أي بقعة من بقاع المنطقة. الأكيد أن الدولة العبريّة ليست جمعية خيريّة. لكنّ الأكيد أيضا أنّ ليس مطلوبا في أي وقت مساعدتها في تنفيذ مآربها المعروفة، في مقدّمها تكريس الاحتلال للضفّة الغربيّة وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة المعترف بها دوليا.
يشكّل ما يحصل في محافظة السويداء السورية، التي شهدت وما زالت تشهد جرائم وفظاعات في حق أبناء الطائفة الدرزية من أبناء المحافظة، فرصة للنظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع كي يعيد تعويم نفسه بعيدا عن الاكتفاء بتوجيه الاتهامات إلى إسرائيل… أو التغاضي عن مهاجمة ما يسمّى عشائر البدو للدروز استنادا إلى حجج أقل ما يمكن وصفها به أنّها واهية!
إنّها فرصة كي يثبت الشرع، بالأفعال وليس بالكلام، أنّه رئيس لكل سوريا ولكل السوريين وليس زعيم تنظيم “هيئة تحرير الشام” وتوابعها. يكون ذلك بتأكيد أن الدولة السورية، التي لم يتجاوز عمرها سبعة أشهر، قادرة على أن تكون مختلفة عن النظام العلوي الذي استمر منذ العام 1966، تاريخ الانقلاب الذي نفذه ضابطان علويان هما حافظ الأسد وصلاح جديد. كان الشريك الثالث في الانقلاب الضابط الدرزي سليم حاطوم الذي سارع حافظ الأسد إلى التخلّص منه على وجه السرعة وحمله على اللجوء إلى الأردن. في مرحلة لاحقة أعدم سليم حاطوم بعيد عودته إلى سوريا عندما أراد الدفاع عنها والمشاركة في حرب 1967!
لا مخرج من الأزمة العميقة التي دخلتها سوريا من دون أن تحمّل النظام الفتيّ مسؤولياته في حماية الدروز بصفة كونهم مواطنين سوريين قبل أي شيء آخر. في هذا المجال يستطيع أحمد الشرع ومعاونوه الاستفادة من تجربة الماضي القريب وتفادي ما حصل مع العلويين ومع المسيحيين. تعرّض العلويون، في آذار – مارس الماضي، في منطقة الساحل السوري لمجازر بعدما قمعت ميليشيات مسلّحة تحركا قاموا به معتقدين أن العالم مهتم بمصيرهم وأنّ في استطاعتهم خلق ما يمكن تسميته “قضيّة علويّة”. تبين أن العلويين آخر هموم العالم وأن ليس هناك، بمن في ذلك إسرائيل، من هو مستعد لتبني قضية أقلّية حكمت سوريا بالحديد والنار طوال نحو ستة عقود. يدفع العلويون حاليا ثمن ارتكابات حافظ وبشّار الأسد وأفراد آخرين في العائلة اعتبروا سوريا مجرّد مزرعة لدى العائلة الحاكمة.
◄ ما يحصل في السويداء يشكّل فرصة للنظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع كي يعيد تعويم نفسه بعيدا عن الاكتفاء بتوجيه الاتهامات إلى إسرائيل
لم تتدخل إسرائيل في ما يجري في سوريا، خصوصا عندما تعلّق الأمر بالعلويين ثم بالمسيحيين. بدا واضحا أنّ المسيحيين في سوريا آخر هموم بنيامين نتنياهو وحكومته على الرغم من تعرّض هؤلاء لمجزرة ارتكبها عنصر من “داعش” داخل كنسية في أحد أحياء دمشق. تصرّف المسؤولون السوريون، تجاه المسيحيين، تصرّفا ينمّ عن نوع من الازدراء تجاه أقلّية لعبت دورا مهمّا في صناعة تاريخ سوريا الذي كانوا من ضحاياه. كان المسيحيون من ضحايا الوحدة المصريّة – السورية ثم من ضحايا حزب البعث بضحالته الفكرية والسياسية وسفالته… ومن ضحايا النظام العلوي الذي سلّم الجولان إلى إسرائيل في حزيران – يونيو 1967 كي يضمن حافظ الأسد احتكار السلطة لاحقا وتوريث سوريا لنجله بشّار في العام 2000.
حُظي أحمد الشرع بدعم أميركي وغربي قويّ. التقى الرئيس دونالد ترامب في الرياض وزار باريس، على سبيل المثال. لعب ورقة التعاطي مع إسرائيل بطريقة ذكيّة ملوحا في كلّ وقت بالعودة إلى اتفاق فك الاشتباك للعام 1974. تغاضى عن كل الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع عسكريّة سوريّة محددة. أكثر من ذلك، استطاع إقامة علاقات وثيقة مع دول عربيّة نافذة، على رأسها المملكة العربيّة السعوديّة. حافظ على العلاقة المتميّزة مع تركيا ولم يتهاون في أي لحظة مع مسألة الوجود الإيراني في سوريا. حرص على تأكيد أن هذا الوجود انتهى إلى غير رجعة وأن لا عودة إلى لعب سوريا دور الجسر بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” وتابع لها اسمه “حزب الله” في لبنان. مثل هذا الإنجاز الكبير، ذي الطابع التاريخي، لا يمكن إضاعته في معارك جانبيّة مطلوب أن يكون الدروز ضحيّتها.
كلّ ما فعله أحمد الشرع جيد. لكنّه لا يغني عن مصالحة مع السوريين، جميع السوريين، بمن في ذلك الدروز. هؤلاء لعبوا عبر التاريخ الحديث للبلد دورا مهمّا ومحوريا على الصعيد الوطني بدءا برفض أن تكون سوريا دولا عدّة، بينها دولة للدروز. لعب الدروز دورا في تكريس اللحمة الوطنية السورية التي مزقها حافظ الأسد ثمّ نجله عن طريق الرهان على حلف الأقلّيات لمواجهة السنّة… بقيادة العلويين. يظلّ أخطر ما قام به الأسد الأب والأسد الابن الاستعانة بـ”الجمهورية الإسلاميّة” في إيران من أجل خلق واقع ديموغرافي جديد في سوريا وتوازن سياسي مختلف في لبنان.
نعم، أمام أحمد الشرع فرصة لتأكيد أنّه رئيس لكل سوريا ولكلّ السوريين من دون تفرقة أو تمييز. من السهل لوم إسرائيل، لكنّ من الصعب قطع الطريق على تدخل إسرائيل في الشأن الداخلي السوري في منطقة حساسة مثل محافظة السويداء. أكثر من طبيعي أن تدعم إسرائيل دروز السويداء في ضوء وجود دروز إسرائيليين يخدمون في الجيش الإسرائيلي من جهة والدور الذي لعبته الطائفة الدرزية، تاريخيّا، على الصعيد الإسرائيلي من جهة أخرى.
بكلام أوضح، لا مفرّ أمام أحمد الشرع غير لعب دور القائد التاريخي الذي يقود الناس ولا ينقاد لهم ولغرائزهم. الأهمّ من ذلك كلّه، يفترض بالرئيس السوري الجديد إظهار أنّه أحمد الشرع وليس “أبومحمّد الجولاني”. يحتاج الأمر إلى جرأة كبيرة ونضج سياسي في الوقت ذاته. بالإضافة إلى ذلك تظهر الحاجة إلى لعب دور الزعيم الوطني الذي يتصالح مع الاعتدال السنّي أوّلا ومع الدروز والمسيحيين والعلويين والأكراد، في طبيعة الحال، أيضا.
خير الله خير الله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة